
تُلقّب مصر ب(أم الدنيا) منذ قرون، وليس هذا اللقب مجرد تعبير أو مبالغة في حب الوطن، بل هو وصف يعكس حقيقة تأريخية وحضارية عميقة الجذور. فمصر هي واحدة من أهم دول مهد الحضارات، وجسر بين الشرق والغرب، وأرض آحتضنت أعظم الإنجازات الإنسانية في مجالات العمارة، والعلوم والفنون والدين، ومنذ فجر التأريخ وحتى يومنا هذا، لعبت مصر دوراً محورياً في تشكيل هوية العالم القديم، مما يجعلها بحق (أم الدنيا).
مصر في التأريخ القديم
تُعد مصر القديمة من أقدم الحضارات التي عرفها الإنسان، حيث بدأت حضارتها في الظهور قبل أكثر من سبعة آلاف عام على ضفاف نهر النيل الخالد. وقد طوّر المصريون القدماء نظاماً معقداً للحكم والإدارة، وبنوا واحدة من أروع عجائب الدنيا السبع، وهي الاهرامات، التي ما زالت تبهر العالم بدقتها الهندسية وعبقرية الانسان المصري في بناءها وإقامتها بهذا الشكل الهندسي.
إذ لم تكن الاهرامات مجرد قبور للفراعنة، بل كانت رموزاً للقوة والعلم والإيمان، واستطاع المصريون القدماء تطوير علوم الفلك والرياضيات والطب، وغيرها من العلوم، وتركوا لنا برديات وكتابات هيروغليفية توثق طرق العلاج والأدوية، مما يدل على مدى تقدمهم العلمي.
بالإضافة إلى ذلك، كانت مصر مركزاً دينياً وثقافياً مهماً، فقد عبدٌّ المصريون أكثر من إله لكل ظاهرة طبيعية، وهو ما يعكس فهماً فلسفياً عميقاً للطبيعة والوجود. كما هو في تطور اللغة والكتابة، وآختراع الكتابة التصويرية (الهيروغليفية) التي تُعد من أول نظم الكتابة في العالم.
مصر في العصور الوسطى والإسلامية
مع دخول الإسلام إلى مصر في القرن السابع الميلادي، بدأت صفحة جديدة في التاريخ المصري، حيث أصبحت مصر مركزاً من مراكز العلم والدين والثقافة الإسلامية. كانت القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية ثم مركزاً للدولة الأيوبية والمملوكية، وهي من أكثر العواصم الإسلامية تأثيراً في التاريخ.
أنشئت الجامع الأزهر في القرن العاشر الميلادي، ليكون أحد أقدم الجامعات في العالم، وما زال حتى اليوم منارة علمية ودينية يقصدها طلاب العلم من مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
كما لعبت مصر دوراً هاماً في التصدي للحملات الصليبية، حيث قاد القائد صلاح الدين الأيوبي جيش المسلمين من القاهرة لهزيمة الصليبيين واستعادة القدس. وكانت أيضاً حصناً في مواجهة الغزو المغولي بفضل انتصارات المماليك.
مصر في العصر الحديث والمعاصر
في العصر الحديث، واصلت مصر أداء دورها القيادي في المنطقة العربية والإفريقية. فخلال القرن العشرين، كانت مصر مركزاً لحركات التحرر الوطني من الاستعمار، وكانت ملهمة للشعوب العربية والأفريقية في سعيها نحو الاستقلال. ومن خلال زعيمها الراحل جمال عبد الناصر، قادت مصر حركة عدم الانحياز، ودعمت حركات التحرير في أفريقيا وآسيا.
ولم تقتصر الريادة المصرية على السياسة فقط، بل امتدت إلى مجالات الفن والثقافة. فقد كانت القاهرة منارة للفن العربي، وخرج منها كبار المطربين والممثلين والكتاب الذين أثروا الحياة الثقافية في الوطن العربي، مثل أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، نجيب محفوظ، ويوسف شاهين.
وفي العصر الحديث أيضاً، ظلت مصر تلعب دور الوسيط في القضايا الإقليمية، وكانت دائماً تسعى لتحقيق الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط. وشاركت في عدد من المبادرات الدولية، كما ساهمت بقوات حفظ السلام في مناطق مختلفة من العالم.
مصر اليوم
اليوم، تواصل مصر مسيرتها نحو التنمية والاستقرار، وهي تبني مستقبلها على أساس من تراثها العريق ومكانتها الإقليمية. مشاريع ضخمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة، وتطوير قناة السويس، واستصلاح ملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية، كلها تعكس طموح المصريين في بناء وطن قوي ومتقدم.
كما تستمر مصر في لعب دور محوري في العالم العربي والقارة الإفريقية، وتشارك بفاعلية في المؤتمرات الدولية وتعزز علاقاتها مع الدول الكبرى. وهي دولة ذات ثقل سكاني وسياسي واستراتيجي، لا يمكن تجاهلها عند مناقشة أي قضية تخص المنطقة.
إن مصر، بتأريخها العريق وحضارتها الممتدة عبر آلاف السنين، وثقافتها الغنية، ومساهماتها المستمرة في مختلف المجالات، تستحق عن جدارة لقب “أم الدنيا”. فهي الأم التي أنجبت الحضارة، واحتضنت الرسالات، وساندت الشعوب، وما زالت حتى اليوم منارة للعلم والثقافة والتقدم. مصر ليست مجرد وطن، بل قصة حضارة خلدها التأريخ، وستظل مصدر فخر وإلهام لأبنائها ولكل شعوب العالم.
اكتشاف المزيد من جورنال أونلاين
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.