
كانت تطل من شرفة شقتهما الصغيرة، سيجارتها تلوّث الهواء النقي الذي يحب ان يستنشقه. نظر إليها وهو يرتب أوراق عمله على الترابيزة الخشبية. كل خط في جسدها يتحدى مبادئه الذي بنى حياته عليها. كانت الفوضى تجسدها، كانت تلك الرقصة الغريبة، رقصة تجذبها شفرات حادة – رغبة عمياء تقاومها قيم راسخة.
قالت بصوت مبحوح، تلوي دخان سيجارتها نحو أوراقه المرتبة: لماذا تُرهق نفسك بهذه الأوراق البالية؟ المال يأتي بطرق أسهل، إذا سمحت لنفسك!
عرف ما تقصده. كانت تلك النبرة تظهر كلما اقترب موعد دفع قيمة الإيجار، أو فاتورة الكهرباء، أو حين ترى إعلاناً لفستان لا تستطيع مقاومته. كانت تشير إلى مديره في العمل، الرجل الذي يمسك بخيوط الترقيات والمكافآت، والذي لم يخفي إعجابه بها. “مجرد عشاء ودّي معه، سأرتدي ما يحب، سأبتسم كما يريد .. وسيحل كل مشاكلنا ”
كانت العبارة تتكرر كسحر أسود.
في البداية، كان يهز رأسه، يبتسم ابتسامة متوترة: “لا أستطيع، حبيبتي. هذا ليس أنا.” وكانت تضحك، تضغط على ذراعه بقوة مؤلمة: “أنت مخلص جدًا لذاتك البائسة! متى ستفهم كيف تدور الدنيا؟
.. كانت كلماتها تثقب حصنه ودرعه الأخلاقي، وتوقظ شكاً مخيفاً: أهو مبدأ أم جُبن؟ أهو نزاهة أم غباء؟
الرغبة كانت وحشاً جائعاً في صدره. رغبته فيها تتلوي كثعبان، في جسدها المثير، في انتباهها الذي كان يشعره بأنه حي، حتى لو كان انتباهاً ساماً. ورغبته في السلام، في حياة لا يشعر فيها بأنه يخون نفسه كل صباح. كانت تلاعبه كالدمية.!
ليلة من الغضب والشهوة بعد شجار مرير، حيث صرخ ..
– أنت أنانية، أمارة بالسوء!
– وأنت ضعيف!
انتهت بهما إلى سرير ممزق. في تلك اللحظة الحمقاء، تحت سحر جسدها وكلماتها التي روت عطشه المؤقت للقبول، همس: حسناً… ربما… عشاء واحد فقط.”!
في اليوم التالي، جلس أمام مديره. كانت صورتها في خياله، تثقله كصخرة. فتح المدير ملفاً يحتوي على تقرير زميل له، تقرير ممتاز يستحق الترقية. لكن المدير نظر إليه مباشرة: صديقك هذا… أسمع أن لديه بعض الآراء – المتطرفة – عن سياسة الشركة؟”
.. كان السؤال فخاً واضحاً. كل خلية في جسده صرخت رافضة. قيمه ومبادئه كانت تصرخ: “هذا ظلم! هذه خيانة!” لكن صوت رغبته همس بصوتها الماكر: “الفستان… الإيجار… أنا… عشاء واحد فقط” .. تذكر!
رأسه تنحني أمام رغبته. همس كلمات غير مسموعة، كلمات أطفأت النور في عينيه: “نعم معاليك لقد سمعت أنه غير مستقر بعض الشيء، وسأتولي تتبع أحواله، وأخبرك بالنتائج تباعا. ”
خرج من مكتب مديره، إلي اقرب مكان ليتنفس بعض الهواء النقي، ومنه إلي اقرب مقهي. يشتاق للنظر إلي الصحبة، الحياة العامة بضجيجها الصاخب، والهاديء علي حد سواء!
سأل نفسه: ” متي أكون أسرة – زوجة صالحة، اولاد خيرين؟
لن أنتظر حتى نهاية الدوام.
عاد إلى شقتها، حيث كانت تنتظره بفستان وردي شبه شفاف جديد، ابتسامة النصر على شفتيها. “أرأيت؟ الأمور بسيطة!”
.. اقتربت لتقبله، لكنه رأى شيئاً في المرآة خلفها – رأى نفسه .. لم يعد يعرف ذلك الرجل!
“لا ” قالها بهدوء غريب، كأنها صادرة من مكان بعيد جداً داخله. “لا عشاء. لا فستان. لا… هذه الأمارة بالسوء”
.. صدمة ثم غضب بركاني انفجر في عينيها. الصراخ، الاتهامات :”أنت جبان! أنت تخرب كل فرص الفوز بالمال، والفوز بي!”
ألقت بكوب نبيذ تجاهه. تحطم على الحائط خلفه، بقعة حمراء كالدم تنز على الجدار الأبيض، مثل وصمة عار. لم يتحرك. كان ينظر إلى تلك البقعة، ثم إلى شظايا الكأس المتناثرة على الأرض.
.. بين شظايا الكريستال والبقع القرمزية رأى الحقيقة بوضوح قاسٍ، علاقتهما كانت كأساً جميلاً من الخارج، لكنه مملوء بسُمٍّ ناعم. كل قبلة، كل تنازل عن مبدأ، كان رشفة من ذلك السم. لقد شرب منه حتى كاد ان يشرف على الموت.
التقط حقيبته الصغيرة، تلك التي أحضر بها كتبه وقيمه قبل شهور. وضع فيها القليل مما يخصه فقط، متجنباً النظر إليها. كانت تصرخ
– الآن!
.. صوتها كان كضجيج بعيد، كصوت صدر من جزيرة في بحر.
خارج الباب، وعلي السلم رأي نورا يتجسد في صورة رجل ابيض الوجه يبتسم له، توقف للحظة. كأنه يقول له : لا تلتفت!
قل كلماتك الأخيرة في تلك الشقة التي كانت يوماً ملجأك وسجنك: – الرغبة قتلتني أيها الملاك في صورة بشر!
– أبحث عن القيم والمباديء من جديد!
خرج. الباب أغلق بهدوء خلفه، كأنه يغطي على صوت القلب الذي تحطم مثل ذلك الكأس. على الأرض، بين الشظايا الحادة، لمعت بقايا النبيذ كدموع لم يذرفها أبداً. وحدها بقعة الدماء على الحائط بقيت شاهدة على الجرح الذي لن يندمل بسهولة، جرح بين ما تريده النفس وما ترفضه الروح!
اكتشاف المزيد من جورنال أونلاين
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.