
رصيف يمتد بمحاذاة الشاطئ كأن لا وجهة له، لا طريق يُفضي إلى مكان، ولا غاية تُرجى. مجرد مساحة خالية، خُلقت ليجلس عليها أولئك الذين أضناهم التعب، وضاعت منهم المسارات.
أمامهم، البحر لا يُغلق أبوابه. يبقى مفتوحًا على اتساعه، يتنفس بالموج، ويزفره دون خجل أو شرح. ماؤه يغسل ما لا يُقال، ويحتفظ بما لا يُنسى.
عند المصباح الأخير، كان هناك رجل أراه كل صباح. لا يقرأ، لا يكتب، لا يتأمل، ولا يتظاهر بالإعجاب بالبحر. فقط يجلس، كتفاه إلى الأمام، ووجهه إلى الداخل. لا يبدو منهارًا، ولا شامخًا… كأنه تعلّم كيف يصغر حضوره، لئلا يثقل على هذا العالم.
كنت أمرّ به كثيرًا، أبطئ خطواتي حين أقترب، ليس لأراه، بل كي لا يراني. كأن النظر إليه يحمل خطرًا خفيًا… لأنك إن أطلت النظر، ترى نفسك فيه.
ثم، في صباح رمادي، غاب.
مكانه بدا خاليًا بطريقة مربكة. البحر هو هو، والموج كما كان، والضوء ذاته. لكن الزاوية التي اعتاد الجلوس فيها صمتت، كأنها فقدت شيئًا لا يُرى. هناك، بجانب السور، كانت علبة صغيرة باهتة اللون، كأنها من رماد الذاكرة.
جلست بقربها، ليس بدافع الفضول، بل كأن شيئًا داخليًا يعتذر. لم ألمسها مباشرة. نظرت إلى البحر، وهمست:
“يا بحر، قل لي… لماذا لا ندرك قيمة من حولنا إلا حين يختفون؟
.. مر رجل مسن، توقف للحظة، ثم قال بصوت هادئ، كأنه سمعني:
كان يجلس هنا، يلوذ بالصمت… لكنك تشعر أن شيئًا في قلبه كان يحاول أن يطفو.
بعد رحيله، فتحت العلبة. كانت تحوي ساعة جيب قديمة توقفت عند الساعة الخامسة وورقة مطوية بعناية. كُتب فيها بخط رصين:
( حين لا يعود للبحر منفى، نصير نحن المنفيين. لم أطلب شيئًا… سوى أن يُرى وجعي كما هو، بلا شرح. سامحوني إن طال جلوسي هنا. كنت أرتب قلبي ليطفو، ولم أنجح.)
أغلقتها بهدوء، وبقيت في مكاني. صوت الأمواج صار أكثر وضوحًا، كأن كل موجة تحمل شيئًا من الكلام الذي لم اهمس به!
وفي صباح اليوم التالي، عدت.
جلست في مكانه. لا أنتظر أحدًا، ولا أبحث عن معنى. شعرت أن المكان بات يشبهني، أو أنني بدأت أشبهه. المارة ينظرون إلي سريعًا، ثم يصرفون أعينهم، كما كنت أفعل سابقًا.
وفي مساء آخر، جلست امرأة إلى جانبي وسألت:
– هل كنت تعرفه؟
نظرت إلى البحر، ثم إلى المصباح المائل، وأجبت دون تردد:
– ربما لم أعرفه حين كان هنا… لكنني الآن أفهم لماذا كان يجلس.
لم تعلق. نهضت بهدوء، ورحلت.
بعد أيام، اختفت العلبة. لم يسأل عنها أحد، ولم يلاحظ أحد.
لكنني ما زلت أسمع البحر كل مساء، يضرب الرصيف بصوت يشبه النداء. كأنه يقول:
إن لم تسمعوا من يجلس بصمت… فاسمعوا على الأقل ما تركه وراءه.
اكتشاف المزيد من جورنال أونلاين
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.