منوعات

الذاكرة الموروثة: كيف تنتقل تجارب الأجداد عبر الأجيال؟

أهم الأخبار

أحدث الأخبار
مؤشرات الأسواق العالمية

الذاكرة الموروثة هي واحدة من أكثر الظواهر التي أثارت اهتمام العلماء والفلاسفة على مر العصور. تتعلق هذه الفكرة بإمكانية انتقال التجارب والخبرات، وخاصة الصدمات، من جيل إلى آخر عبر الجينات، وليس فقط عبر التعليم أو الثقافة. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم بدا في الماضي أقرب إلى الخيال العلمي، إلا أن الأبحاث العلمية الحديثة بدأت تكشف عن أدلة تدعم وجوده، مما أضاف أبعادًا جديدة لفهمنا للعلاقة بين الماضي والحاضر.

في تجربة علمية بارزة أجريت عام 2013 في جامعة إيموري بالولايات المتحدة، عرّض الباحثون مجموعة من الفئران لرائحة زهر الكرز بالتزامن مع إحداث صدمة خفيفة لهم. بعد فترة قصيرة، بدأت الفئران تربط بين الرائحة والخطر. الأغرب من ذلك أن أبناء هذه الفئران، وحتى الأحفاد، أظهروا نفس ردود الفعل السلبية تجاه الرائحة، رغم أنهم لم يتعرضوا للصدمات مباشرة. هذه النتائج أثارت ضجة علمية كبيرة، حيث أظهرت أن التجارب المرتبطة بالخوف قد انتقلت إلى الأجيال اللاحقة عبر الحمض النووي.

تجارب مماثلة على البشر دعمت هذه الفكرة. دراسة أجريت على أحفاد الناجين من الهولوكوست كشفت عن مستويات مرتفعة من هرمونات التوتر لديهم مقارنة بغيرهم. وأشارت الدراسة إلى أن الصدمات التي عاشها الأجداد أثناء الحرب العالمية الثانية تركت بصمة بيولوجية انتقلت إلى الأحفاد. هذه البصمة لم تكن مرتبطة فقط بالتجارب النفسية، بل أظهرت تأثيرًا بيولوجيًا على مستوى الجينات.

تُفسر هذه الظاهرة من خلال علم التخلّق، الذي يدرس كيفية تأثير العوامل البيئية والخبرات الحياتية على تعبير الجينات دون أن تغير من تسلسل الحمض النووي نفسه. فعندما يواجه الأفراد تجارب شديدة مثل الحروب أو المجاعات، تترك هذه التجارب علامات كيميائية على الحمض النووي، يمكن أن تنتقل عبر الخلايا التناسلية إلى الأجيال القادمة.

الظاهرة ليست محصورة على التجارب الفردية، بل تمتد إلى المجتمعات بأكملها. في الثقافات التي عانت من كوارث تاريخية، مثل الحروب أو الاستعمار، يبدو أن الأجيال الجديدة تحمل آثارًا نفسية وسلوكية، حتى دون أن تعيش الظروف نفسها. في بعض المجتمعات الأفريقية التي تعيش في الشتات، أظهرت دراسات أن هناك ارتباطًا بين مستويات التوتر والتاريخ الطويل للعبودية، مما يشير إلى أن الأجيال الحالية ما زالت تتأثر بصدمات أجدادها.

ورغم الأدلة المتزايدة، ما زال هناك الكثير من الأسئلة حول حدود وتأثير هذه الظاهرة. إلى متى يمكن أن تستمر آثار التجارب الموروثة؟ وهل يمكن تعديل هذه التأثيرات أو محوها؟ الأبحاث الحديثة تُظهر إمكانية إعادة تشكيل التعبيرات الجينية عبر التداخلات الطبية أو النفسية، مما يفتح الباب أمام إمكانيات علاجية للأفراد الذين يعانون من آثار صدمات لم يعيشوها شخصيًا.

الذاكرة الموروثة ليست مجرد فكرة علمية بل مفهوم يربط الأجيال ببعضها البعض بطريقة تتجاوز الزمن. سواء كان ذلك عبر الخوف الذي ينتقل من جندي شارك في الحرب إلى أحفاده، أو عبر القلق الذي يلاحق مجتمعات عانت من الكوارث، تذكرنا هذه الظاهرة بأن الماضي لا يختفي، بل يظل حاضرًا بطرق خفية ومؤثرة. ومع استمرار الأبحاث، قد نصل إلى فهم أعمق لهذه العلاقة، مما يساعد في معالجة آثار الماضي وبناء مستقبل أكثر استقرارًا للأجيال القادمة.


اكتشاف المزيد من جورنال أونلاين

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

هانى خاطر

الدكتور هاني خاطر حاصل على درجة الدكتوراه في السياحة والفندقة، بالإضافة إلى بكالوريوس في الصحافة والإعلام. يشغل حالياً منصب رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية وحقوق الإنسان في كندا، كما يتولى رئاسة تحرير موقع الاتحاد الدولي للصحافة العربية وعدد من المنصات الإعلامية الأخرى. يمتلك الدكتور خاطر خبرة واسعة في مجال الصحافة والإعلام، ويُعرف بكونه صحفياً ومؤلفاً متخصصاً في تغطية قضايا الفساد وحقوق الإنسان والحريات العامة. يركز في أعماله على إبراز القضايا الجوهرية التي تمس العالم العربي، لا سيما تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية. طوال مسيرته المهنية، قام بنشر العديد من المقالات التي سلطت الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات التي تطال الحريات العامة في عدد من الدول العربية، فضلاً عن تناوله لقضايا الفساد المستشري. ويتميّز أسلوبه الصحفي بالجرأة والشفافية، ساعياً من خلاله إلى رفع الوعي المجتمعي والمساهمة في إحداث تغيير إيجابي. يؤمن الدكتور هاني خاطر بالدور المحوري للصحافة كأداة فعّالة للتغيير، ويرى فيها وسيلة لتعزيز التفكير النقدي ومواجهة الفساد والظلم والانتهاكات، بهدف بناء مجتمعات أكثر عدلاً وإنصافاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

دعنا نخبرك بما هو جديد نعم لا شكرا