
كان يقف أمام النافذة العالية في شقته الجديدة، بيده جريدته المفضلة. تذكر آخر رسالة منها – انت مجرد انسان عادي بالنسبة لي -!
يسمع صوت قريب منه لموسيقي حزين يغني : حتي في أحضان الحبايب شوك .
المدينة تحت المطر كانت لوحة ضبابية من أضواء صفراء تسبح في شريط أسود. الصوت مختلف هنا. ليس هدير البحر الذي ألفه منذ الطفولة، بل همهمة محركات وصياح سيارة إسعاف بعيد يتلاشى كصراخ محبوس. حتى رائحة المطر ليست نفسها؛ تفتقر إلى ملوحة البحر وتختلط بعادم وتراب رطب.
على الترابيزة الخشبية الباردة، استقرت صورته القديمة معهم – الوجوه المبتسمة، الأذرع المتشابكة على شاطئ بات الآن مجرد بُعد في الذاكرة. لمس الزجاج البارد بإصبعه. كانت تلك الضحكات حقيقية يومًا ما، لكنها الآن تبدو وكأنها تنتمي إلى حياة شخص آخر. هنا، في هذه الغرفة ذات الجدران البيضاء الناصعة والضوء الصناعي القاسي، كان غريبًا. غريبًا عن المكان بكل تفاصيله الغامضة، وغريبًا حتى عن نفسه.
كان يخرج للعمل بين الاحياء القديمة حينا وبين جدران خرسانية عالية احيانا، وجوه المارة تتدفق كتيار بلا معالم، كلٌّ منهم محاط بفقاعة صامتة من الهموم الخاصة. حاول أحيانًا أن يبتسم، أن يقول كلمة، لكن جملاته كانت تسقط على الأرض كأحجار ثقيلة، لا تجد من يلتقطها. اللغة نفسها شعرت بثقل غريب على لسانه، وكأن الكلمات فقدت نغمتها الحميمة. كان يشاهد التفاعلات من حوله كمتفرج خلف زجاج سميك؛ يرى حركة الشفاه، يسمع الأصوات، لكن المعنى الحقيقي يفلت منه كدخان سيجارة.
في المساء، يعود إلى صمته. يعد القهوة بنفس الطريقة التي اعتادها، لكن طعمها مرٌّ وغريب. يجلس على الأريكة الجديدة، التي لا تحمل رائحة البيت القديم، ويحدق في السقف. يتساءل: هل ترك نفسه هناك، بين رمال الشاطئ وضحكاتهم؟ أم أن الاغتراب كان يسكنه دائمًا، والمسافة فقط كشفت عن شكله بوضوح قاسٍ؟ يشعر كأنه شبح يحوم في حياة ليست حياته، يراقب رجلاً يحاول عبثًا أن يجد صدى لقدميه على أرض لا تعرفه، ولا يعرفها. الغربة كانت سجنًا بلا قضبان مرئية، والسجان هو هذا الشعور المستمر بأنه، حتى في أكثر لحظاته وحدة، ليس كليًا هنا.
هزّ رأسه ببطء، واتجه مرة أخرى نحو النافذة. المطر ينساب على الزجاج، مشوّشًا الأضواء الخارجية إلى دوائر مضيئة تذوب وتتشكل. كان العالم خلف الزجاج لوحة تجريدية لا معنى لها، تمامًا مثل وضعه في داخلها. وقف هناك، ظل صامت في غرفة غريبة، يشاهد الضباب وهو يزداد كثافة، داخل الزجاج وخارجه، ولسان حاله يقول : الوعيُ يبدأ حينَ نرى الناسَ كما هم، لا كما نتمنى أو نخافُ أن يكونوا.!
اكتشاف المزيد من جورنال أونلاين
اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.