دنيا ودين

ليلة القدر: فضلها، علاماتها، وحقيقة توقيتها

أحدث الأخبار
مؤشرات الأسواق العالمية

ليلة القدر هي أعظم ليلة في السنة، وهي الليلة التي أنزل فيها القرآن الكريم، كما جاء في قوله تعالى: “إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ” (القدر: 1). وفضلها عظيم حيث وصفها الله بأنها “خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ”، أي أن العمل الصالح فيها أفضل من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقد ورد في السنة النبوية أن هذه الليلة تشهد نزول الملائكة بكثرة، ويغمرها السلام حتى مطلع الفجر.

أما عن علاماتها، فقد وردت بعض الإشارات في الأحاديث النبوية، ومن أبرزها أن الشمس تشرق صبيحتها بلا شعاع، وأنها ليلة معتدلة الجو، لا حارة ولا باردة، كما يكون فيها طمأنينة وسكون في النفس، وقد يشعر بها بعض المؤمنين بشكل روحي خاص. ومع ذلك، تبقى علاماتها غير قاطعة تمامًا، مما يجعل التماسها في العشر الأواخر من رمضان أمرًا محمودًا.

اختلف العلماء في تحديد موعد ليلة القدر، وأرجح الأقوال أنها في العشر الأواخر من رمضان، وخاصة في الليالي الوترية، استنادًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “تَحرَّوْا ليلة القدر في الوِتْرِ من العَشرِ الأواخرِ من رمضانَ” (رواه البخاري). ومع ذلك، هناك من رأى أنها ليست ثابتة في ليلة محددة، بل قد تتغير من عام إلى آخر، استنادًا لاجتهادات مختلفة ونقول عن بعض الصحابة.

يرتبط الجدل حول تحديدها بموضوع اختلاف الدول في دخول رمضان، فلو كانت في ليلة وترية في بلد معين، فقد تكون في ليلة زوجية في بلد آخر بسبب اختلاف بداية الصيام. وهنا يذهب بعض العلماء إلى أن ليلة القدر ليست مرتبطة بالتقويم المدني، بل بمشيئة الله، وبالتالي فقد تتجلى لكل صائم حسب تقويم بلده، أو قد تكون ليلة موحدة يشمل فضلها كل المسلمين.

في المقابل، أثار بعض الهراطقة وأصحاب الفكر المنحرف جدلًا حول موعد ليلة القدر، مشككين في كونها في رمضان، وزاعمين أنها قد تقع في وقت آخر من العام. ويربط هؤلاء ذلك بمفهوم “النسيء”، حيث كان العرب في الجاهلية يضيفون شهرًا بين الحين والآخر للحفاظ على توافق السنة القمرية مع المواسم الشمسية. ويدّعي هؤلاء أن المسلمين عندما ألغوا “النسيء”، فقدوا التقويم “الصحيح”، وبالتالي فإن رمضان لم يعد في وقته الحقيقي، مما يعني – حسب زعمهم – أن ليلة القدر ليست بالضرورة في رمضان.

لكن هذا الادعاء يتعارض مع النصوص القطعية في القرآن والسنة، حيث يؤكد الوحي أن ليلة القدر في رمضان دون شك، كما في قوله تعالى: “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ” (البقرة: 185)، وهو ما يربط نزول القرآن – الذي ثبت وقوعه في ليلة القدر – بشهر رمضان نفسه. كما أن الإسلام أبطل عادة النسيء بوضوح، وأعاد ترتيب الأشهر القمرية إلى وضعها الأصلي الذي شاءه الله، كما قال تعالى:

“إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ” (التوبة: 37).

هذه الآية تبطل فكرة النسيء تمامًا، وتؤكد أن ترتيب الأشهر ثابت بأمر الله، وبالتالي فإن الادعاء بأن ليلة القدر ليست في رمضان بسبب “إلغاء النسيء” هو محض افتراء.

في النهاية، تبقى ليلة القدر سرًا إلهيًا عظيمًا، وهي فرصة لمن أراد أن يغتنمها بالعبادة والدعاء، بصرف النظر عن أي خلافات حول توقيتها، فالأهم هو الاجتهاد في العشر الأواخر لتحصيل بركتها.


اكتشاف المزيد من جورنال أونلاين

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

هانى خاطر

الدكتور هاني خاطر حاصل على درجة الدكتوراه في السياحة والفندقة، بالإضافة إلى بكالوريوس في الصحافة والإعلام. يشغل حالياً منصب رئيس الاتحاد الدولي للصحافة العربية وحقوق الإنسان في كندا، كما يتولى رئاسة تحرير موقع الاتحاد الدولي للصحافة العربية وعدد من المنصات الإعلامية الأخرى. يمتلك الدكتور خاطر خبرة واسعة في مجال الصحافة والإعلام، ويُعرف بكونه صحفياً ومؤلفاً متخصصاً في تغطية قضايا الفساد وحقوق الإنسان والحريات العامة. يركز في أعماله على إبراز القضايا الجوهرية التي تمس العالم العربي، لا سيما تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والحقوق المدنية. طوال مسيرته المهنية، قام بنشر العديد من المقالات التي سلطت الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات التي تطال الحريات العامة في عدد من الدول العربية، فضلاً عن تناوله لقضايا الفساد المستشري. ويتميّز أسلوبه الصحفي بالجرأة والشفافية، ساعياً من خلاله إلى رفع الوعي المجتمعي والمساهمة في إحداث تغيير إيجابي. يؤمن الدكتور هاني خاطر بالدور المحوري للصحافة كأداة فعّالة للتغيير، ويرى فيها وسيلة لتعزيز التفكير النقدي ومواجهة الفساد والظلم والانتهاكات، بهدف بناء مجتمعات أكثر عدلاً وإنصافاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى